حين تتكلم الصحراء: الثقافة الحسانية تعيد رسم خريطة الانتماء

الحصاد 3605 مايو 2025آخر تحديث :
حين تتكلم الصحراء: الثقافة الحسانية تعيد رسم خريطة الانتماء

بقلم: سمية مسرور

حين نتحدث عن الأقاليم الجنوبية، إننا نُعيد اكتشاف كنز ثقافي حيّ يمتد بامتداد الصحراء المغربية ، ويشكّل امتدادًا أصيلًا للمغرب التاريخي، هذه الأقاليم لا تقتصر على كونها مناطق حياة وأرض لكل مواطن ومواطنة مغربيين ، بل هي جزء لا يتجزأ من هوية المغرب، تساهم في رسم صورة وطنية موحدة بعراقتها وعمقها الثقافي.
إن الأقاليم الجنوبية ليست فقط مجالًا ترابيًا زاخرًا بالثروات، بل هي حاضنة لتراث حيّ، ينبض بالحكايات والطقوس والأشكال التعبيرية التي تستحق أن تكون في صدارة المشهد الثقافي المغربي.
ففي الداخلة، طانطان، السمارة، بوجدور، العيون، وأوسرد، وغيرها هناك وجوهٌ شابة تُبدع، تُغنّي، وتكتب بلغة المكان والانتماء. هناك نساءٌ حافظن على الشعر، على الحكاية، على الزي، وعلى الإيمان بأن الثقافة مقاومة ناعمة، وهوية لا تُشترى.
ولا يمكن أن نتحدث عن هذه الهوية دون أن ننصت لصوت “شعر التبراع”، هذا الفن الشفهي النسائي الذي يختزل تجربة المرأة الصحراوية في بضع شطرات تختزن حبًا، حنينًا، كبرياءً، وسردًا أنثويًا خاصًا للوجود.
التبراع ليس فقط ممارسة فنية، بل شكلٌ من أشكال حفظ التاريخ العاطفي والوجداني للمرأة في الصحراء، ومن خلاله، كانت تُعلن عن مشاعرها بحرية، تُوثّق وجودها، وتُشارك المجتمع حكمةً مغلّفة في بساطة شعرية آسرة.
في لحظةٍ يعاني فيها العالم العربي من تآكل التقاليد الشفوية، يصبح الحفاظ على مثل هذه الكنوز واجبًا وطنيًا، وفرصة لصناعة سردية ثقافية مغربية لا تُقصي أحدًا ولا تُهمّش صوتًا.
وفي الوقت الذي نحتفي فيه بهذه الذاكرة، علينا أن نُعيد التفكير في السياسات الثقافية تجاه الجنوب، هل نريده فقط احتفالًا رمزيًا يظهر في الواجهات؟ أم نريده شريكًا فعليًا في إنتاج الثقافة، في المشاركة، في التمثيل، وفي الوصول العادل للموارد والفرص؟
لقد نجحت المملكة المغربية في تحقيق مكاسب واضحة على مستوى التنمية والبنيات التحتية في الجنوب، لكن الرهان القادم، وهو الأصعب، هو يتجلى في التمكين الثقافي.

نريد منصات إنتاج سينمائي تحكي الصحراء بلغتها، نريد فضاءات مسرحية، مراكز تكوين في التراث الحساني، برامج تعليمية تُعرّف الطفل المغربي منذ الابتدائية على تنوع بلاده، لا أن يكتشفه لاحقًا وكأنه غريب.
من جهة أخرى، تبقى الثقافة أداة حاسمة في تعزيز الدبلوماسية الوطنية. فما تفعله روايةٌ صادقة أو عملٌ مسرحي مؤثّر أو صوتٌ شعري آسر، قد لا تفعله سنوات من الوثائق والتقارير.
وحين تكون هذه الأدوات نابعة من عمق الجنوب، فإنها لا تُخاطب فقط الداخل المغربي، بل تخترق الحدود وتُخاطب العالم، برواية مغربية ناعمة وقوية.
إننا لا نريد للأقاليم الجنوبية أن تكون مجرد خلفية لصور المهرجانات، أو مشهدًا في الزيارات الرسمية. نريدها قلبًا نابضًا، منتجًا، ومؤثرًا. نريد أبناءها في لجان السياسات الثقافية، نريد تمويلًا يعترف باحتياجاتهم وتطلعاتهم، نريدها جزءًا من خيالنا الجمعي حين نرسم وجه المغرب.
من طنجة إلى الكويرة، الثقافة هي الجسر الذي لا يسقط، لأنها تحترم الذاكرة، وتتسع للهوية، وتمنح لكل جهة في المغرب مكانتها دون استثناء.
هي ليست ترفًا، بل شرط للوحدة الحقة.
هي ليست رفاهيةً تُمارس في العواصم، بل ضرورة في الهوامش، وفي كل قرية وقبيلة ونقطة حدود.
الثقافة الحسانية ليست زخرفة تراثية، بل هي المكوّن الأساسي لإعادة رسم خريطة الانتماء، وهو ربط للأجيال القادمة بالماضي، وتوثيقٍ للحاضر بكلمة واحدة: نحن، موحدون في التنوع.
في كل الاتجاهات تبقى الصحراء المغربية شاهدة على الوحدة التي تُبنى بالكلمة كما تُبنى بالطريق، وبالقصيدة كما تُبنى بالوثيقة.
من طنجة إلى الكويرة، ثقافتنا هي الرابط الأجمل، والردّ الأعمق، والامتداد الوطني الذي لا يسقط.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.