منذ أن بدأ الإنسان يدوّن كلماته الأولى على جدران الكهوف، ومنذ أن اخترع الحكاية ليشرح بها العالم ويخفف بها وطأة الوجود، ظلّ الأدب فعلًا إنسانيًا بامتياز. لكنه اليوم يواجه تحديًا غير مسبوق: شريك جديد لا يملك قلبًا ولا ذاكرة، لكنه يكتب. لا يملك ماضٍ ولا حلم، لكنه يروي. إنه الذكاء الاصطناعي.
نحن لا نتحدث عن المستقبل، بل عن الحاضر الملموس. نماذج لغوية متطورة، مثل “تشات جي بي تي” وغيرها، باتت تكتب القصص، تحاكي الأساليب، تولّد الشعر، وتبتكر نكاتًا وأمثالًا. مؤلفات رقمية صدرت فعليًا من تأليف “الذكاء الاصطناعي”، وبعضها دخل منافسات أدبية وجنى إعجاب النقاد. فما الذي يحدث؟ هل نعيش نهاية الإبداع البشري؟ أم بداية فصل جديد من التعايش بين الإنسان والآلة؟
الذكاء الاصطناعي لا يشعر.. لكنه يكتب
لنفهم عمق التحوّل، علينا أولًا أن نقرّ بحقيقة: الذكاء الاصطناعي لا “يفهم” المعنى كما نفهمه نحن. إنه لا يشعر بالحزن ولا يعرف طعم الحب، لكنه قادر على توليد نص أدبي يحاكي الحزن أو يصف الحب بدقة. لماذا؟ لأنه تدرب على ملايين النصوص، رصد الأنماط، حفظ البُنى، وتعلم كيف “يبدو” النص الأدبي.
لكن، وهنا المفارقة الكبرى: أن يبدو النص أدبيًا، لا يعني بالضرورة أنه “أدب”. لأن الأدب ليس فقط بنية لغوية ولا زخرفة أسلوبية. إنه سؤال وجود. إنه البوح الذي لا يُستعار، والموقف الذي لا يُصطنع.
من يصنع من؟ الكاتب أم الآلة؟
قد يظن البعض أن الذكاء الاصطناعي “مبدع”. وهذا وصف يحتاج إلى تدقيق. لأن الإبداع في جوهره فعل مفاجأة وخرق للمألوف، بينما تعتمد الآلة على التكرار والاحتمال. الإبداع يولد من التوتر، من الصراع، من المجازفة. أما الذكاء الاصطناعي، فهو لا يخاف الفشل، لأنه لا يعي النجاح.
لكن، هل هذا يعني أن مكانه خارج الحقل الأدبي؟ ليس بالضرورة. الذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون حليفًا للكاتب، لا بديلًا عنه. أداة للتوليد، للمراجعة، للإلهام. ربما سيُعيد تعريف العلاقة بين الكاتب واللغة، بين الخيال والحرف. وربما سيدفع الأدب إلى حدود جديدة، كما فعلت الطباعة والكهرباء والإنترنت من قبل.
مخاوف مبررة.. وآمال ممكنة
من الطبيعي أن يشعر الكُتاب بالقلق. ماذا لو أصبح الناشرون يفضلون “نصوصًا رخيصة وسريعة” تولدها الخوارزميات؟ ماذا لو فقد الأدب روحه، وأصبح تقنيًا محضًا؟ أسئلة مشروعة، خصوصًا في زمن التسليع الثقافي.
لكن بالمقابل، هناك آمال. يمكن للذكاء الاصطناعي أن يُ democratize الأدب، أن يمنح صوتًا لمن لا يملك أدوات الكتابة، أن يفتح الأبواب أمام أشكال سرد جديدة، كالنصوص التفاعلية، والشعر البرمجي، والرواية المدعومة بالذكاء الاصطناعي. الأدب، بهذا المعنى، لا ينقرض، بل يتحوّل.
الأدب ما زال إنسانيًا.. حتى إشعار آخر
في نهاية المطاف، الأدب الحقيقي لن يولد من آلة فقط، لأنه يحتاج إلى عين رأت، إلى قلب خاف، إلى ذاكرة تشتاق. يمكن للذكاء الاصطناعي أن يساعدنا في الكتابة، لكن لا يمكنه أن يعيش بدلاً منا.
أعظم ما في الأدب أنه لا يُقرأ فقط بالعقل، بل يُحسّ بالقلب. والقلوب، حتى الآن، لم تدخل عصر الذكاء الاصطناعي.
بقلم سمية مسرور