بقلم: سمية مسرور
في زمن تتعدد فيه الروايات حول الهوية، وتُختزل أحيانًا في سطور سجلات مدنية أو في فخرٍ بالأنساب، أجد نفسي أكتب من موقع مختلف، من هويةٍ اخترتها بملء الحب، لا منحتها لي وراثة الدم.
أنا ابنة أسرة حاضنة، نشأت على دفء لا يعرفه إلا من احتُضِن بقلب، لا من حمله رحم. والهوية التي أعيشها اليوم لم تكن هدية الميلاد، بل ثمرة رحلة، رحلة من الكفالة إلى الإعلام، ومن الاحتضان إلى الانتماء.
الهوية: ما نبنيه لا ما نُمنح
نُولد في عالم يُملي علينا أسماءنا وأصولنا، وكأن الهوية قدر لا يُناقش. لكنني اليوم أؤمن بشيء مختلف: الهوية مشروع إنساني، نبنيه بالتجارب، بالعلاقات، وبالقيم. هي سؤال نجيب عليه طوال حياتنا: من نحن؟ وبمن نختار أن نكون؟
أمي الحاضنة، التي لم تنجبني جسدًا لكنها أنجبتني معنًى، كانت البرهان الحي أن الهوية تُصنع بالعطاء، لا بالجينات. كانت أمي بصيغةٍ اكثر بكثير من اي معنى آخر، لكنها محفوظة في وجداني كأعمق رابطة، وأصدق انتماء.
الإعلام كمنبر للهوية المختارة
حين اخترتُ الإعلام، لم تكن رحلتي مهنية فقط، بل كانت استكمالًا لرحلة هوية. أردت أن أكون صوتًا لمن يُحرمون من هذا الحق الأساسي: أن يُعرَّفوا كما يستحقون، لا كما تُقرره دفاتر الحالة المدنية.
في برنامجي الإذاعي “رحلة إنسان”، أحاول أن أطرح أسئلة الهوية من قلب الواقع، من تجارب أناس لا تُقاس قيمتهم بما كُتب في خانة “اسم الأب”، بل بما فعلوه حين مدّ لهم أحدهم يده وقال: “لك مكان بيننا”.
أن تكون مكفولًا… وأن تصنع وطنًا
في المجتمعات العربية، لا تزال الكفالة ملفًا محفوفًا بالوصمة، ومثقلًا بالصمت. لكنني اليوم أرى، من خلال تجربتي، أن الأطفال المكفولين ليسوا فقط “من دون نسب”، بل هم أيضًا أطفال “من دون تمثيل”. وأنا، بصفتي إعلامية وابنة كفالة، اخترت أن أمثلهم، أن أكتب وأتحدث وأرفع صوتهم، حتى لا يشعر أحد منهم أنه “أقل” من الآخرين.
الهوية ليست شهادات ميلاد، بل اعتراف ضمني بأنك موجود، مهم، تنتمي، وتستحق. وأي مجتمع لا يحتضن أبناءه جميعًا، دون تمييز في الأصل أو الطريقة التي دخلوا بها هذا العالم، هو مجتمع يخسر جزءًا من إنسانيته.
أحب وطني… لأنه اختارني كما اخترته
أنا مغربية، فخورة بجذوري، بثقافتي، بلغتي. لكن وطنيتي لا تُبنى على اسم العائلة ولا على صدفة الولادة. بل على إيماني بحق كل إنسان أن يكون جزءًا من الوطن، إن خدمه، إن أحبه، وإن انتمى إليه بصدق.
لقد علمتني أسرتي الحاضنة أن الانتماء فعل، لا ورقة. وأن حب الوطن لا يُقاس بعدد الأجيال التي عاشت فيه، بل بعدد القلوب التي قررت أن تبنيه، أن تحمي قيمه، وأن تجعل العدالة والمساواة حقًّا للجميع، لا امتيازًا للبعض.
الهوية هي أن تُختار وتَختار
أنا اليوم أفخر بأنني ابنة احتضان، وجزء من مجتمع بدأ يُعيد تعريف ذاته بجرأة. مجتمع يؤمن أن كل طفل مكفول هو طفل مواطن، وأن كل أسرة حاضنة تعيد تشكيل ملامح الوطن.
أكتب لأقول:
الهوية ليست ما نُمنح عند الولادة، بل ما نبنيه كلما قلنا:
“أنا أنتمي… لأنني اخترت أن أنتمي. ولأن هناك من اختارني، بلا شروط، فقط اختارني.”