بقلم: سمية مسرور
في العالم الواقعي، نُؤمن بمبدأ “المتهم بريء حتى تثبت إدانته”. لكن في العالم الرقمي، يبدو أن المعادلة انعكست تمامًا: فـ”المدان” هو كل من يقع تحت عدسة الجماهير، والبراءة لا تمنحها المحكمة، بل تمنحها ذاكرة المستخدمين… إن شاءوا أن ينسوا.
العدالة الشعبية الرقمية – كما باتت تُسمى – ليست تشريعًا ولا مؤسسة، بل موجة شعورية، غالبًا آنية، تُمارَس من خلف الشاشات، وتبني أحكامها في ثوانٍ، وتهدم سمعة أشخاص في دقائق. هذه “العدالة” ليست بالضرورة عادلة، لأنها تفتقد إلى أهم أدوات الحكم: المعلومة الدقيقة، التمهّل، حق الدفاع، والنية النزيهة.
كم من شخصٍ أُلغي لمجرد جملة مُجتزأة من سياقها؟
وكم من إنسان فقد عمله أو اسمه أو احترامه بسبب صورة قديمة أو رأي سابق، أُعيد إحياؤه خارج سياق الزمان والمكان؟
إننا نعيش مرحلة جديدة، لم تعد فيها وسائل الإعلام هي التي تُشكل الرأي العام، بل بات “الرأي العام” – أو ما يبدو كذلك – يُشكّل الرأي الإعلامي، ويُحاكمه، ويُحاسبه. أصبح كل فرد منا عرضة للمساءلة أمام جمهور لا يُعرف من هو، ولا يُعرف متى يرضى، ولا من يضمن حياده.
فهل نحن أمام تطور ديمقراطي حقيقي؟ أم أمام فوضى شعبية رقمية تُهدد الحريات الفردية وتُلغي الخصوصيات؟
وهل من العدل أن تتحول المنصات إلى ميادين قضاء شعبي، يُصدر الأحكام دون دفاع، ويُدين بالنوايا، ويُنفّذ بالإشاعة؟
الأمر الأخطر أن هذه “العدالة الشعبية” باتت تعيد تشكيل السلوك العام. أصبح البعض يخشى التعبير، لا لأن رأيه خاطئ، بل لأن المنصة قد لا تتقبّله. وأصبح آخرون يُجاملون الجمهور ويصطنعون مواقف مطلوبة فقط ليربحوا رضا القطيع الرقمي.
وهكذا، ننتقل من ثقافة التعبير إلى ثقافة الخوف من التعبير.
ومن فضاء حرّ، إلى فضاء مراقَب… لا من قبل سلطة عليا، بل من جمهور غاضب لا يُعجبه شيء.
لكن، لنعترف أيضًا أن هذه “العدالة الرقمية” ليست دائمًا ظالمة. فهي كانت، في أحيان كثيرة، أداة لكشف انتهاكات لم يكن الإعلام الرسمي ليجرؤ على نشرها، ومنبرًا لضحايا التهميش ليُسمَع صوتهم، ورافعة لملفات مسكوت عنها لسنوات. المشكل ليس في وجود صوت للجمهور، بل في تحوّله إلى قاضٍ وجلّادٍ في آنٍ واحد.
نحن بحاجة اليوم إلى بناء ثقافة جديدة:
ثقافة “المواطن الرقمي الواعي”، لا “المستخدم المندفع”.
ثقافة تُفرّق بين النقد والتشهير، بين المحاسبة والإلغاء، بين النصرة والعدوان.
ربما لا نستطيع وقف سيل الرأي العام على المنصات، لكن يمكننا – على الأقل – أن نحاول توجيهه نحو عدالة إنسانية قبل أن تكون رقمية. عدالة تعترف أن خلف كل شاشة… إنسان، له قصة، وله لحظات ضعف، وله وجه لا تراه الكاميرا.
فـ”حين يُحاكمنا الجمهور”، نحتاج أن نسأل أنفسنا:
من يُحاكم الجمهور؟
ومن يُعيد للمخطئ حق التوبة؟
ومن يُنقذ البريء من ذاكرة لا تنسى؟