ثمة انتصارات لا تُدوّن في سجلات الفيفا، ولا تُرفع لها الكؤوس لكنها تُخلّد في الذاكرة الإنسانية، حيث تصبح الحياة مباراة أكثر اتساعًا من ملاعب كرة القدم. هناك حيث لا تُقاس النجاحات بعدد الأهداف، بل بعدد اللحظات التي قاوم فيها الإنسان كي لا يسقط. وفي هذه المساحة الرمادية بين الوجع والانتصار، بين الفقد والوفاء، يتقدّم لويس إنريكي، مدرب باريس سان جيرمان، كأيقونةٍ نادرةٍ في عالم الرياضة… بل في عالم البشر.
حين وقف إنريكي في نهائي دوري أبطال أوروبا، لم يكن فقط مدربًا يحلم بالكأس، بل كان رجلًا يحمل في قلبه ذكرى طفلته الراحلة “تشانا” التي اختطفها السرطان في عمر الزهور. كانت تغيب عن الكاميرات، لكنها لم تغب عن قلبه. لم تكن في دكة البدلاء، لكنها كانت تملأ الملعب، ترفرف في وجدانه، وتسكن ضميره كصلاة لا تنتهي.
كل خطة يرسمها، وكل تعليمات يصرخ بها من الخط الجانبي، كانت مشفوعة بندبة عميقة لا تراها الجماهير. وكل فوز حققه مع سان جيرمان، كان له طعم مُرّ، لأنه يعلم أن هناك ضوءًا كان يجب أن يكون في عيني طفلته، يشاركه تلك اللحظات. لكنه مع ذلك، لم ينهزم.
إنريكي لم يختر أن يُحزن العالم بقصته، لم يتاجر بألمه، ولم يجعل من فقده قصة استدرار للدموع. كان بإمكانه أن يختبئ خلف الأسوار العالية للحزن، أن يعتزل، أن يبتعد عن ضغط الجماهير وأعين الإعلام، لكنه فعل العكس. واجه الحزن كقائد، واستثمره كإنسان. عاد إلى التدريب وفي قلبه فتيل لا ينطفئ… حب ابنته. عاد ليُدرّب، لا لينسى، بل ليُثبت أن الحبّ أقوى من الغياب.
وفي مشهدٍ استثنائي، غير تقليدي في عالم الرياضة الصاخب، استوقف الجمهور الباريسي العالم بهديته الرمزية العظيمة. في نهائي دوري الأبطال، حملت الجماهير لافتات باسم “تشانا”، رفرفوا بها كما لو أنهم يرفعونها معهم إلى السماء، ووقفوا دقيقة صمت امتناناً. لم يكن تصرفًا من لجنة المنظمة، بل كان نبضًا إنسانيًا خالصًا، تجاوب فيه القلب الجماعي مع وجع مدربهم. تلك اللحظة كانت الكأس الحقيقية لإنريكي. تلك اللافتات، وتلك الدموع، وتلك الهتافات التي نطقت باسم ابنته، كانت تقول له: “لم تكن وحدك حين تألمت… ولن تكون وحدك في لحظة المجد.”
لقد تحول الفقد إلى جسر لا إلى حاجز. إلى جسر عبر منه إنريكي من الهزيمة النفسية إلى مجد رياضي وإنساني. كل خطة تكتيكية أبدعها لم تكن فقط صنيعة عقل مدرب بارع، بل كانت تَجلٍّ لمشاعر رجل فقد أعز ما يملك، ومع ذلك واصل العطاء، واستمر في الحلم، ومضى بقلب أبٍ يُدرّب من أجل حياة تستحق أن تُعاش.
إنريكي لا يُلهم فقط لاعبيه، بل يُلهم كل إنسان جُرّح ذات فقد، واعتقد أن الحزن نهاية الطريق. قصته تقول لنا بصوت خافت لكنه حاسم: نعم، يمكن للإنسان أن يحزن ويبكي ويُنكسر… ثم يقوم. نعم، يمكن للدموع أن تكون سراجًا للنجاح، لا عائقًا له.
وهكذا، تكتمل الدائرة. في حضرة الفقد، لم ينهزم إنريكي. في حضرة النجاح، لم ينسَ. في حضرة الجمهور، لم يكن وحده. وفي حضرة ابنته… لم يتوقف عن الحب.
لقد صعد بالكأس، نعم، لكنه صعد أيضًا بذاكرة الحب، بثقل الغياب، وبهذا القلب الكبير الذي لم يُدرّب فقط فريقًا، بل درّبنا جميعًا على أن نحب الحياة، رغم كل شيء.
بقلم سمية مسرور