بقلم: سمية مسرور
في عالمٍ تتسارع فيه الأحداث وتبهت فيه القيم، يبقى بعض الرجال علامات مضيئة في دروب الذاكرة الوطنية، رجال لا يُقاس مجدهم بالخطابات الرنانة، بل بثباتهم، ووفائهم، ونبل خدمتهم للدولة. هكذا كان عبد الحق المريني، رجلًا بصوت خفيض، لكنه حمل صدى الوفاء ، وكتب بمداد من ذهب قصة مملكة اسمها المملكة المغربية.
ولد عبد الحق المريني سنة 1934 بالرباط، في زمنٍ كانت فيه المملكة تخط أولى خطواتها نحو الاستقلال، وفي بيتٍ عريق استظل بالعلم والقرآن. حفظ المصحف الشريف وهو ابن تسع سنوات، ونسخه بخط يده، وكأن القدر أعدّه ليكون ناسخ الذاكرة الكبرى لوطنٍ كامل.
كان المثقف المخضرم الذي عاش في قلب السلطة، دون أن يغريه بريقها. لازم القصر في صمت العارفين، وكان شاهدًا على التحولات الكبرى للمملكة في عهدين: عهد الملك الراحل الحسن الثاني، وامتدادًا في عهد الملك محمد السادس.
رجل بثلاث صفات: مؤرخ، ناطق، ومربٍّ
جمع المريني بين ثلاث صفات نادراً ما تجتمع في رجل واحد: مؤرخ المملكة الرسمي، الناطق باسم القصر الملكي، والمثقف المربي. كل صفة منها كانت كفيلة بأن تخلّد اسمًا، فكيف وقد اجتمعت في رجل واحد؟
حين عُيّن مؤرخًا للمملكة عام 2010، لم تكن المهمة غريبة عنه. فقد قضى عمره بين الوثائق الملكية، والمحفوظات الوطنية، ونصوص البيعة، ومجالس العلم. لكنه لم يكن مؤرخًا فحسب، بل كان حارسًا للذاكرة الرسمية، ومرآة صادقة لخط الدولة وامتدادها الرمزي.
أما في مهمته كناطق رسمي باسم القصر الملكي، فقد كان الصوت الرسمي حين تقتضي اللحظة الملكية وضوحًا ودقة ووقارًا. لا ترف ولا ارتجال، بل كلمات موزونة، تختزل بين سطورها توجه الدولة وإشارات المرحلة.
مؤلفاته.. حين يكتب التاريخ بضمير العارف لا المؤرخ البارد
ما يميز عبد الحق المريني عن غيره من المؤرخين، أنه لم يكتب من خارج الأسوار، بل من عمق التجربة. ومؤلفاته لم تكن سردًا جافًا للأحداث، بل نصوصًا تنبض بروح الوطنية، وتوثّق للرؤية الملكية المغربية في السياسة والتاريخ والدين.
من أبرز مؤلفاته:
“الجيش المغربي عبر التاريخ” وثيقة علمية ونضالية، تؤرخ للجيش المغربي منذ المرابطين وحتى العصر الحديث، وتُبرز دوره في الدفاع عن السيادة والهوية.
“شعر الجهاد في الأدب المغربي” دراسة أدبية/تاريخية رصينة، استعرض فيها كيف امتزج الحس الديني بالوطني في قصائد المقاومة والدفاع عن الوطن.
“محمد الخامس وذكريات زمان” عملٌ حميمي يحكي سيرة بطل التحرير بروح من عايشه، وليس من سمع عنه فقط.
“الحسن الثاني كما عرفته”: شهادة ثمينة تختزل في سطورها مواقف إنسانية وسياسية للملك الراحل، كما رآها أحد رجاله المقرّبين.
“البيعة والخلافة في التاريخ الإسلامي” كتاب يسلط الضوء على المفهوم السياسي والديني للبيعة، كما مارسته الدولة المغربية منذ قرون، ويدحض به الكثير من التأويلات السطحية حول شرعية النظام.
مربٍّ للأجيال.. قبل أن يكون رجل دولة
لم يغب المريني عن قاعات المحاضرات والندوات، فقد كان أستاذًا للتاريخ المعاصر بجامعة محمد الخامس، ومربيًا للأجيال قبل أن يكون مؤرخًا للملوك. كثير من تلامذته أصبحوا اليوم فاعلين في الفكر والسياسة والدبلوماسية، وكلهم يشهدون بثقافته الموسوعية وتواضعه الفذ.
رحيل رجل الظل… ووجه الوفاء
في الثاني من يونيو 2025، غاب عبد الحق المريني عن المشهد، لكن صوته بقي. بقي في خطبه الملكية التي حررها، وفي الكتب التي تركها، وفي الوثائق التي وقّعها، وفي مواقف ظل وفيًا لها حتى الرمق الأخير.
رحل من كان لسان الدولة حين تنطق، وصوت الملك حين يقرر، وضمير الذاكرة حين يُكتب التاريخ. لم يسعَ إلى مجد شخصي، بل آمن بأن خدمة الوطن في صمت أشرف من شهرة زائفة في ضجيج الفراغ.
كلمة أخيرة…
في زمن الاستهلاك السريع للمعلومة والرموز، نحن بحاجة إلى أن نعيد الاعتبار لرجال مثل عبد الحق المريني. لا لأنهم فقط خدموا القصر والدولة، بل لأنهم حافظوا على “المعنى” في زمن اللا معنى، وكتبوا التاريخ بعين الوفاء لا بعين الهوى.
سلام على روحه… وسلام على تاريخٍ عرفنا جزءًا منه لأن عبد الحق المريني كان شاهدًا عليه… وراويًا له… وناطقًا باسمه.