مولاي بوبكر حمداني: الحكم الذاتي المغربي ممارسة سيادية ومرجعية قانونية

الحصاد 360منذ 4 ساعاتآخر تحديث :
مولاي بوبكر حمداني: الحكم الذاتي المغربي ممارسة سيادية ومرجعية قانونية
مولاي بوبكر حمداني: الحكم الذاتي المغربي ممارسة سيادية ومرجعية قانونية

مولاي بوبكر حمداني: ا

في مداخلته خلال ندوة وطنية عقدت بمدينة العيون بتاريخ 21 يونيو 2025 حول “قضية الوحدة الترابية للمملكة من شرعية التاريخ إلى رهانات المستقبل”، قدم الدكتور مولاي بوبكر حمداني، رئيس مركز التفكير الاستراتيجي والدفاع عن الديمقراطية، قراءة أكاديمية في المبادرة المغربية للحكم الذاتي من منظور القانون الدولي، معتبرا إياها نموذجا سياديا متقدما لتسوية النزاعات الترابية، وحلا واقعيا ينسجم مع متطلبات الشرعية الدولية، ويُعد في الآن ذاته مساهمة بناءة في تعزيز السلم والاستقرار داخل القارة الإفريقية.

الدكتور حمداني أوضح أن جوهر المبادرة المغربية لا يكمن فقط في صياغة مقترح سياسي ظرفي، بل في بناء قانوني ومؤسساتي رصين يستند إلى مبدأ السيادة المعاصرة، حيث لم تعد هذه السيادة مرادفة للجمود والمركزية، بل غدت تعني قدرة الدولة على تكييف بنياتها الداخلية وفق منطق الاستقرار والاندماج الوطني.

وعليه يرى المتحدث إن المقترح المغربي لا يقوض السيادة بل يفعلها، إذ يندرج بوضوح ضمن الوحدة الترابية للمملكة ويحتفظ للدولة المركزية بالاختصاصات السيادية الجوهرية كالدفاع، الأمن، الدين والعلاقات الخارجية، بينما يمنح الجهة سلطات واسعة في المجالات التشريعية والتنموية والاجتماعية، وفق منطق التفريع والتمكين المؤسسي.

و قد بين المتدخل أن المفهوم عرف تطورا دلاليا كبيرا خلال العقود الأخيرة، من صيغة مثيرة للريبة إلى أداة هندسة مؤسساتية متقدمة، صارت تُستعمل لحل النزاعات المعقدة داخل الدول دون المساس بوحدة ترابها.

من هذا المنطلق، تعد المبادرة المغربية واحدة من أبرز تطبيقات “تقرير المصير الداخلي التوافقي”، والذي يمثل اليوم بديلاً عقلانيًا عن خيارات الانفصال أو الاستيعاب القسري، وهي بهذا المعنى تكرس ثقافة الحوار والتفاوض السياسي، وتبتعد عن منطق فرض الحلول من خارج السياق الوطني.

استعرض الدكتور حمداني مجموعة من التجارب الدولية المماثلة، من جزر آلاند في فنلندا إلى جنوب تيرول في إيطاليا، ومن كيبك الكندية إلى الحكم الذاتي المتعدد الأشكال بإسبانيا، مرورًا بالنموذج التفويضي المعتمد في المملكة المتحدة. وأبرز في هذا الصدد كيف أن المبادرة المغربية تجمع بين خصائص من هذه التجارب، مع الاحتفاظ بخصوصية تكييفها ضمن السياق المغربي، ما يجعلها نموذجا غير مقلد، بل مبادرة أصلية تستلهم ولا تستنسخ.

وفيما يتعلق بالنموذج الإسباني، توقف المتحدث مطولا عند خصوصيته اللافتة في مجال تدبير التعدد داخل دولة موحدة، مبرزًا أن إسبانيا اعتمدت منذ دستور 1978 ما يعرف بنظام “الدولة المركبة”، الذي يجمع بين مبدأ وحدة الأمة الإسبانية وحق الجهات أو “القوميات التاريخية” في الحكم الذاتي. هذا النظام أفرز تفاوتا واضحا بين الجهات، إذ أن بعضها يتمتع بصلاحيات موسعة جدًا، كما هو الحال في كتالونيا التي تتوفر على لغة رسمية خاصة، ونظام تعليم وإدارة محلية مستقل، وقوة أمنية جهوية كاملة، في حين أن جهات أخرى تكتفي بصلاحيات أقل. أما إقليم الباسك، فقد بلغ نموذجا فريدا من الاستقلالية المالية، إذ يحتفظ بجل عائداته الضريبية ويحول فقط نسبة متفق عليها إلى الحكومة المركزية، مما يمنحه استقلالية مالية غير مسبوقة في أوروبا الغربية. هذا النظام “اللامتماثل” في منح الحكم الذاتي لم يُنظر إليه كتهديد لوحدة الدولة، بل كآلية عقلانية لتدبير التنوع، وهو ما يتقاطع مع الفلسفة المؤطرة للمبادرة المغربية.

وقدّم المتحدث مثالا على ذلك في مسألة الشرطة المحلية، التي اعتبرها خطوة جريئة من الدولة المغربية تدل على استعداد حقيقي لمنح الجهة أدوات فعلية لتدبير شؤونها، وهو مستوى لا تتجرأ كثير من الدول على اعتماده في تجاربها اللامركزية.

كما توقف المتحدث عند نقطة استراتيجية بالغة الأهمية تتعلق بإدارة الموارد الطبيعية، حيث تنص المبادرة على أن العائدات المتأتية من استغلال الثروات الطبيعية في الجهة سترصد للمنطقة نفسها، وهو ما يقطع مع “لعنة الموارد” التي لطالما كانت سببًا للنزاعات في مناطق عدة من العالم. واعتبر أن هذا الإجراء لا يمثل فقط توجها اقتصاديا، بل رؤية سياسية تؤمن بأن التنمية الحقيقية هي مفتاح الاستقرار، وأن إشراك الساكنة المحلية في ثرواتها يعزز الانتماء والثقة بالدولة.

من حيث البنية المؤسساتية، تقدم المبادرة تصوراً متكاملا ومتقدما، لا يكتفي بالهياكل الكلاسيكية الثلاثية، بل يُدخل عناصر مبتكرة مثل ضمان تمثيلية القبائل الصحراوية، ودمج وظيفتي رئاسة الجهة والتمثيل الرسمي للدولة في شخص واحد، بما يضمن التنسيق المؤسسي ويمنع ازدواجية السلط. كما أن المحاكم الجهوية، وإن استقلت في اختصاصاتها، ستصدر أحكامها باسم الملك، ما يُبقي على وحدة السلطة الرمزية والسيادية.

على مستوى القانون الدولي، أكد الدكتور حمداني أن المبادرة المغربية تتحدث اللغة القانونية المعاصرة، وتنسجم تماما مع منطق مجلس الأمن الذي دعا في أكثر من قرار إلى حل سياسي واقعي ودائم قائم على التوافق. كما أنها تفعل مبدأ اللاتماثل البنّاء الذي يتيح للدول أن تُعطي أقاليم بعينها وضعًا خاصًا دون أن تعمم ذلك النموذج، في انسجام مع تجارب ديمقراطية متعددة. وفي هذا الإطار، شدد على أن الطابع المخصوص للمبادرة لا يمس بمبدإ المساواة بين الجهات، بل يندرج في منطق التمايز الوظيفي، كأداة عقلانية لتدبير تنوع الدولة.

أما من الزاوية الإفريقية، فقد اعتبر المتحدث أن القيمة المضافة للمبادرة المغربية تتجاوز بعدها المحلي، إذ تمثل، في نظره، مساهمة استراتيجية في تشكيل نماذج بديلة لتسوية النزاعات الترابية بالقارة الإفريقية، ذلك أن القارة، التي تعاني من موجات انفصالية وانقسامات هوياتية تهدد بنيان الدولة الوطنية، في أمس الحاجة إلى حلول تضمن وحدة الدول دون سحق تنوعها الداخلي.

المبادرة المغربية، بهذا المعنى، تقدم درسًا قانونيا وسياسيا مفيدا، وتؤكد أنه بالإمكان تحقيق التوازن بين الهوية المحلية والوحدة الوطنية دون المساس بأي من الطرفين، يضيف المتحدث.

وفي ختام مداخلته، أشار الدكتور مولاي بوبكر حمداني إلى أن المبادرة المغربية لا تمثل فقط إطارا قانونيا، بل أيضا مشروعا وطنيا طموحا يعكس الثقة التي راكمها المغرب في تدبيره لقضاياه الكبرى، ويعبر عن استعداد حقيقي لمنح صلاحيات واسعة ضمن دولة موحدة، في إطار رؤية متكاملة للتنمية والحكامة الجيدة. إن قوة هذه المبادرة، وفق تحليله، لا تكمن فقط في مضمونها، بل أيضًا في توقيتها، ومقروئيتها الدولية، وقدرتها على ملاءمة تطورات القانون الدولي دون التفريط في الثوابت الوطنية، ما يجعل منها اليوم، ليس فقط أداة لحل نزاع، بل مرجعا يحتذى في جهود الاستقرار والتكامل السياسي بالقارة الإفريقية.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.