بقلم: سمية مسرور
مدخل وجداني سياسي
في حياة الملوك، كما في مسارات الدول، تمر لحظات لا تُنسى، وتمر أسماء تبقى محفورة في الذاكرة الجماعية. ولعلّ اسم جلالة الملك الحسن الثاني، الملك الراحل، واحدٌ من تلك الأسماء التي تجاوزت حدود الزمان والمكان. رجلٌ لم يكن فقط قائدًا لبلد، بل علامة فارقة في المشهد السياسي الإقليمي والدولي. رحل عن الدنيا في 23 يوليوز 1999، لكنه لم يغادر الوجدان المغربي، ولا صفحات التاريخ السياسي الحديث.
الدهاء السياسي والفطرة القيادية
منذ بدايات حكمه، أثبت الحسن الثاني أنه ليس ملكًا عاديًا. كان يمتلك ذكاءً سياسيًا فطريًا نادرًا، يجمع بين عمق الرؤية وسرعة البديهة. أدرك باكرًا أن بقاء المغرب في قلب الخريطة الإقليمية والدولية يقتضي قيادة تتقن فن التوازن، وتقرأ بين سطور السياسة الدولية. لم يكن رجل صدفة، بل رجل بناء، ومهندس المرحلة الصعبة ما بعد الاستعمار، وصانع مؤسسة الملكية الحديثة.
الملك الذي نال احترام العالم
لقد تجاوز احترامه حدود الوطن، ليصبح رقمًا صعبًا في المعادلات الدولية. مواقفه المتّزنة، وقدرته على التفاوض الصعب، جعلت منه زعيمًا عربيًا فريدًا. كان من القلائل الذين حاوروا الشرق والغرب بلغة وازنة، وجعلوا من المغرب بلدًا يُحسب له ألف حساب في المحافل الدولية. حتى خصومه كانوا يدركون أن تحت قبة قصره، تُصنع قرارات تُحسب بعناية، وتُلقى الكلمات بحسابٍ شديد.
الجنازة المهيبة.. الشهادة الصامتة
حين وافته المنية، انحنت السياسة العالمية في صمت. اجتمع قادة العالم، من رؤساء جمهوريات إلى ملوك وأمراء، في جنازة لا تُشبه إلا أصحاب المهابة التاريخية. مشهد الجنازة الملكية في الرباط لم يكن مجرد مراسم بروتوكولية، بل شهادة عالمية بوزن الرجل. فقد شيّعه الحلفاء بامتنان، والخصوم باحترام، والشعب المغربي بالدموع والدعاء. كان يومًا وطنيًا بامتياز، وحكاية وداع استثنائية لملكٍ استثنائي.
الوفاء الشعبي الحي
لكن الأهم من كل تلك الوفود، ومن كل عدسات الكاميرا، كان ذلك الحزن الصادق في عيون الشعب. خرج المغاربة عن بكرة أبيهم، من كل الجهات، من المدن والقرى، لا يودّعون ملكًا فقط، بل يودّعون أبًا، ومعلّمًا، ورمزًا حقيقيًا في ذاكرتهم الجمعية. ومنذ ذلك اليوم، لم تمرّ ذكرى وفاته دون أن تعود صور جنازته، وملامح حنكته، وكلماته الشهيرة، لتُروى للأبناء، وتُتداول بين الأجيال.
لقد مضت سنين على رحيله، ولا يزال الملك الحسن الثاني حاضرًا: في المؤسسات التي أسسها، في المبادئ التي أرساها، وفي كرامة السياسة التي صانها. رحل الجسد، لكن ظلّ الفكر. وتلك هي علامة القادة الكبار، أن لا تُنسى ذكراهم، لأنهم غرسوا في أرض الوطن ما لا يُمحى.
سلامٌ على الحسن الثاني، رجلٌ احترمه الخصوم قبل الحلفاء، وودّعه العالم بوقار، وبقي حيًّا في ذاكرة شعبه لا تُنسى.