من طنجة إلى الكويرة: كيف تحوّلت الثقافة المغربية الغنية والمتنوعة إلى رافعة استراتيجية للدبلوماسية الناعمة

الحصاد 3603 يوليو 2025آخر تحديث :
من طنجة إلى الكويرة: كيف تحوّلت الثقافة المغربية الغنية والمتنوعة إلى رافعة استراتيجية للدبلوماسية الناعمة

في عالم تتنافس فيه الدول على النفوذ بوسائل متعددة تتجاوز القوة العسكرية والاقتصادية، برزت الدبلوماسية الناعمة كأحد أهم أدوات التأثير والهيمنة في القرن الحادي والعشرين. فالأمم التي تمتلك قدرة على الترويج لقيمها، وفنونها، وتراثها الثقافي، تمتلك قدرة أكبر على تشكيل انطباعات إيجابية تعزز من مكانتها وتفتح لها أبواب التعاون والتفاهم مع العالم. المغرب، بثرائه الحضاري وتاريخه العميق، يمتلك إرثاً ثقافياً متنوعاً يمتد من جبال الريف إلى صحراء الكويرة، ويشمل لغات متعددة، وعادات وتقاليد عريقة. هذه الثروة ليست فقط سجلاً للماضي، بل هي أداة حية ينهل منها المغرب اليوم ليصنع تواصلاً مع الشعوب والثقافات الأخرى، ويرسم من خلالها هويته كدولة منفتحة وحضارية في قلب العولمة.
التنوع الثقافي المغربي: ثروة حضارية مفتوحة على العالم

يُعتبر التنوع الثقافي في المغرب من أبرز ملامح هويته الوطنية؛ فهو فسيفساء نابضة تجمع بين العربية الفصحى واللهجات المغربية، والأمازيغية بكل تنوعاتها اللغوية، إلى جانب التأثيرات التي أضافها التواجد التاريخي للفرنسية والإسبانية. هذه اللغات ليست مجرد أدوات تواصل، بل هي وسائط تعبير عن حكايات وحضارات متراكمة تشكل نسيجاً ثقافياً غنيّاً. وتتجلى هذه الثروة أيضاً في الفنون الشعبية التي تنبع من عمق الشعب المغربي؛ مثل موسيقى العيطة التي تحكي بطولات وقصص الأجداد، وأنغام الكناوة التي تأخذ المستمع في رحلة روحية ساحرة، إضافة إلى الرقصات الشعبية والأزياء التقليدية التي تحمل رموزاً عميقة. كما أن الأسواق التقليدية، والمعمار المغربي المميز، والمطبخ المتنوع، كلها تمثل أبعاداً متعددة لهذا التراث المفتوح الذي يتنفس بين الحاضر والماضي، ويجذب الباحثين عن أصالة الشرق وجمال الغرب.
المهرجانات والفعاليات الثقافية: منصات عالمية للقاء الثقافات

لا يقتصر دور المهرجانات المغربية على الاحتفاء بالفنون والتراث المحلي فقط، بل تتعدى ذلك لتصبح فضاءات حيوية تلتقي فيها الثقافات العالمية وتتشابك. مهرجان موازين في الرباط، على سبيل المثال، تحول إلى حدث دولي يجمع بين الموسيقى التقليدية والحديثة، ويستقطب آلاف الزوار من أنحاء العالم، ما جعله من أكبر المهرجانات الموسيقية في أفريقيا والعالم العربي. كذلك مهرجان طنجة الدولي للموسيقى الذي يمثل ملتقى للثقافات المتوسطية، حيث تتلاقى الأنغام من الشمال والجنوب في تناغم فريد. ومهرجان الكناوة في الصويرة الذي ينقل الزائر إلى أجواء روحانية تجسد التراث الإفريقي المغربي. هذه المناسبات ليست فقط فرصاً للتسلية، بل هي أدوات تواصل ثقافي تسهم في بناء فهم مشترك، وتفتح آفاقاً جديدة للتعاون بين الفنانين والثقافات، مما يعزز دور المغرب كمركز ثقافي إقليمي ودولي.

الثقافة كرافعة للدبلوماسية الناعمة المغربية من خلال استثمار

هذا التنوع والثراء الثقافي، نجح المغرب في تحويل الثقافة إلى أداة دبلوماسية ناعمة ذات أثر عميق على علاقاته الدولية. فقد ساهمت الثقافة المغربية في بناء صورة بلديّة متسامحة ومتعددة الأوجه، قادرة على استيعاب الآخر واحترامه، ما جعلها جاذبة للعديد من الدول والمؤسسات. يلعب الفنانون والسفراء الثقافيون دوراً محورياً في نقل هذه الصورة للعالم، حيث لا يقتصر دورهم على تقديم عروض فنية، بل هم رسل يحملون قيم التسامح والسلام ويكسرون الحواجز الثقافية والسياسية. كما أن هذه الدبلوماسية الثقافية ساهمت في دفع عجلة السياحة وتنشيط الاقتصاد الوطني، عبر جذب الزوار للاستمتاع بتجربة مغربية فريدة تجمع بين الأصالة والحداثة. ومن هنا يتضح أن الثقافة ليست مجرد رفاهية بل هي أداة استراتيجية تؤثر في السياسة الخارجية وتسهم في تعزيز الاستقرار والتنمية.

التحديات التي تواجه استثمار الثقافة في الدبلوماسية

مع كل هذه الإمكانات، لا تزال الثقافة المغربية تواجه تحديات عدة قد تعيق استثمارها الكامل كرافعة دبلوماسية. فالدعم المؤسسي للقطاع الثقافي بحاجة إلى تعزيز أكبر، حيث لا تزال بعض الفنون والتراث حاضرة بشكل ضعيف في الخطط الرسمية. كما أن ضعف التسويق الثقافي وعدم احترافية بعض الجهات في ترويج المنتوجات الثقافية يحد من انتشارها عالمياً. كذلك، تعاني حقوق الفنانين والمبدعين من نقص الحماية مما يؤثر على حيوية الحركة الفنية. وعلاوة على ذلك، تحتاج الثقافة إلى خطط تنموية مستدامة تدمجها في البرامج التعليمية وتدعمها بمشاريع متكاملة تضمن استمرارية وفعالية هذا المورد الحيوي.

الثقافة المغربية، جسر سلام ومستقبل واعد

في النهاية، يمكن القول إن المغرب يمتلك ثروة ثقافية تجعل منه قوة ناعمة مميزة على الساحة الدولية، قادرة على إحداث فرق في عالم متشابك ومتغير. إن الاستثمار المستدام في الثقافة، وتطوير سياسات واضحة تدعم المبدعين وتحمي التراث، هو السبيل لبناء مستقبل يليق بتاريخ المغرب العريق ورؤيته المستقبلية. فالثقافة ليست فقط انعكاساً لهويتنا، بل هي رسالة سلام وتفاهم نوجهها للعالم، وجسر يربط بين الشعوب، يجعل المغرب منارة ثقافية تنير دروب العولمة بقيم الإنسان والإنسانية.

بقلم سمية مسرور

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.