في فضاء الأغنية العربية، تقف فيروز شامخة كجبل قاف، ليس فقط كصوت استثنائي ومُلهِم، بل كأمٍّ تحمل في وجدان ابنها زياد الرحباني أكثر من ملامح النسب البيولوجي. إنها أمّه الروحية، الفنية، العاطفية، والبوصلة التي لم تضلّ في درب المعنى رغم كل تعاريج المسار.
أمومة من نوع خاص
ليست علاقة فيروز بزياد مجرّد علاقة أم بابنها، بل علاقة غائرة في نسيج الذاكرة اللبنانية والعربية، تقاطعت فيها الأحاسيس بالألحان، والانتماء بالتمرد، والحنان بالصمت. منذ ولادته، عاش زياد في حضن الصوت الذي غنّى “يا قمر مشغرة” و”كيفك إنت”، ورافقته مشاهد فيروز وهي تتحضّر للبروفات، تضع سماعاتها، تراجع النصوص، وتنتقل من صمتها الكوني إلى ذروة النشيد.
لكن هذه الأمومة لم تكن تقليدية؛ كانت صامتة وقوية، خفيّة وعميقة. عُرفت فيروز بشخصيتها الهادئة والمنغلقة على حياتها الخاصة، ما شكّل لزياد بيئة من التأمل والقراءة والتمرد على السائد. لم تحتَج إلى أن تقول الكثير؛ كان صمتها كافيًا ليغني عنه زياد بالنقد، والمسرح، والتجريب.
من “سوبر ماما” إلى “الملهمة الأولى”
كثيرًا ما تحدّث زياد عن فيروز باحترام مهيب، لكنه لم يُجمّل الحكاية. اعترف بأنه كان يحاكم صوتها أحيانًا بعين الناقد أكثر من عين الابن، وكان يطرح الأسئلة حول معنى الكمال في الفن. لكنه في كل مرة يعود إلى الحقيقة الجوهرية: أن فيروز ليست فقط أمه، بل “صوت الوطن”، “روح البيت”، و”موسيقى الحياة”.
حين لحّن لها وهو لم يتجاوز العشرين عامًا، أعطاها أدوارًا جديدة، جعلها تغني “كيفك إنت” و”بكتب اسمك يا حبيبي” بلغة شعبية أكثر قربًا من نبض الشارع، ومع ذلك، لم تفقد أبدًا هالتها السماوية. لقد فهم فيروز جيدًا، وكان الوحيد الذي تجرأ على جعلها تغني بصوت مختلف، ومع ذلك، لم تُحطَّ من مقامها، بل زادته عمقًا.
حضورها في غيابه، وغيابه في حضورها
حتى في مراحل الجفاء أو الصمت العاطفي بينهما، ظلّت فيروز الأم حاضرة في كل ألحان زياد. ظهر صوتها في كل صمتٍ شعري، وفي كل إحساسٍ مكسور في كتاباته المسرحية. لم يكن بحاجة لأن يُطريها في كل مقابلة، لأن صوتها كان يسكن في خلفية كل لحظة من لحظاته.
وحين سُئل مرارًا عن علاقته بها، أجاب بما لا يُقال: بعينين تحملان عبء الحنين، وغصّة مكسوة بالصمت. لأن فيروز ليست مجرّد أم، بل اختصارٌ لطفولة، لبيت، لشتاء بيروت، لحب الوطن الذي خذل أبناءه، ولحب الأم الذي لا يُخذل.
الرحبانية: سلالة الفنّ والأمومة
من آل الرحباني، ورث زياد مجدًا موسيقيًا عريقًا، لكن من فيروز ورث الصمت الذي يغني، والوجع الذي لا يصرخ، والكرامة التي لا تنكسر. لم تكن فقط من غنّت قصائد نزار وسعيد عقل، بل كانت من ربّت زياد على أن الفنّ موقف، وأن الموسيقى وطن بديل حين يُصادر الوطن الحقيقي.
في الختام: فيروز كما لا تُقال
لم يحتَج زياد لأن يقول “أحبكِ يا أمي”، لأن العالم كله يعرف أنه قالها حين لحّن لها “عودك رنان”، وكتب لها “هدوء نسبي”، وجعلها تغني “مش فارقة معاي”، في زمنٍ صار فيه الصراخ علامة حضور.
فيروز بالنسبة لزياد ليست فقط أمًّا.. إنها ذاكرة، وقدر، ومقام لا يُمسّ.
وهو بالنسبة لها، الابن الذي قال كلّ ما أرادت أن تقوله… دون أن تنبس بكلمة.
بقلم: سمية مسرور